فصل: تفسير الآية رقم (185):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآية رقم (185):

{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
{شَهْرُ رَمَضَانَ} مبتدأٌ سيأتي خبرُه أو خبرٌ لمبتدإٍ محذوف، أي ذلك شهرُ رمضانَ أو بدلٌ من الصيام على حذف المضافِ أي صيامُ شهرِ رمضانَ وقرئ بالنصب على إضمار صُوموا أو على أنه مفعولُ تصوموا أو بدلٌ من {أياماً معدودات} ورمضانُ مصدرُ رمِضَ أي احترق من الرمضاء فأضيفَ إليه الشهرُ وجُعل علماً ومُنع الصرفَ للتعريف والألفِ والنون كما قيل: ابنُ دأْيةَ للغراب فقولُه عليه السلام: «من صام رمضانَ» الحديثُ واردٌ على حذف المضافِ للأمن من الالتباس وإنما سُمِّي بذلك إما لارتماضِهم فيه من الجوع والعطشِ وإما لارتماض الذنوب بالصيام فيه أو لوقوعه في أيام رَمَضِ الحرِّ عند نَقْل أسماء الشهور عن اللغة القديمة {الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن} خبرٌ للمبتدأ على الوجه الأول وصفةٌ لشهر رمضانَ على الوجوه الباقية، ومعنى إنزالِه فيه أنه ابتُدىء إنزالُه فيه وكان ذلك ليلةَ القدرِ، أو أنزل فيه جملةَ إلى السماء الدنيا ثم نزل مُنَجَّماً إلى الأرض حسبما تقتضيه المشيئةُ الربانية أو أُنزل في شأنه القرآنُ وهو قولُه عز وجل: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «نزلتْ صحفُ إبراهيمَ أولَ ليلةٍ من رمضانَ وأُنزلت التوراةُ لستٍ مضَيْن منه والإنجيلُ لثلاثَ عشرةَ منه، والقرآنُ لأربع وعشرين» {هُدًى لّلنَّاسِ وبينات مِّنَ الهدى والفرقان} حالان من القرآن أي أُنزل حال كونه هدايةً للناس بما فيه من الإعجاز وغيرِه وآياتٍ واضحةٍ مرشدةً إلى الحق فارقةً بينه وبين الباطل بما فيه من الحُكم والأحكام {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ} أي حضرَ فيه ولم يكن مسافراً، ووضعُ الظاهر موضعَ الضمير للتعظيم والمبالغة في البيان، والفاءُ للتفريعِ والترتيب، أو لتضمُّن المبتدإ معنى الشرط، أو زائدةٌ على تقدير كونِ {شهرُ رمضانَ} مبتدأً والموصولُ صفة له، وهذه الجملةُ خبرٌ له وقيل: هي جزائية كأنه قيل: لما كُتب عليكم الصيامُ في ذلك الشهر فمنْ حضَرَ فيه {فَلْيَصُمْهُ} أي فليصم فيه بحذف الجار وإيصالِ الفعل إلى المجرور اتساعاً وقيل: من شهد منكم هلالَ الشهرِ فليصمْه على أنه مفعولٌ به كقولك: شهِدتُ الجمعةَ أي صلاتها فيكونُ ما بعده مخصِّصاً له كأنه قيل: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا} وإن كان مقيماً حاضِراً فيه {أَوْ على سَفَرٍ} وإن كان صحيحاً {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فعليه صيامُ أيامٍ أخَرَ لأن المريضَ والمسافرَ ممن شهد الشهرَ، ولعل التكريرَ لذلك أو لئلا يُتَوَهم نسخُه كما نُسخ قرينُه {يُرِيدُ الله} بهذا الترخيص {بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} لغاية هي رأفتُه وسعةُ رحمتِه {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تعليلٌ لفعلٍ محذوف يدلُّ عليه ما سبق أي ولهذه الأمورِ شُرِعَ ما مرَّ من أمرِ الشاهد بصوْمِ الشهر وأمرِ المرخَّص لهم بمراعاة عدةِ ما أَفطر فيه ومن الترخيص في إباحة الفطر، فقوله تعالى: {لتكملوا} علةُ الأمر بمراعاة العِدة ولتكبروا علةُ ما عَلِمه من كيفية القضاء، {هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علةُ الترخيص والتيسيرِ، وتعديةُ فعل التكبير بعلى لتضمُّنه معنى الحمد كأنه قيل: ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم، ويجوز أن تكون معطوفةً على علة مقدرةٍ مثلُ ليُسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا إلخ ويجوز عطفُها على {اليُسرَ} أي يريد بكم لتكملوا إلخ كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ} إلخ والمعنى بالتكبير تعظيمُه تعالى بالحمد والثناءِ عليه، وقيل: تكبيرُ يومِ العيد وقيل: التكبيرُ عند الإهلال، و{ما} تحتمل المصدرية والموصولة أي على هدايته إياكم أو على الذي هداكم إليه وقرئ {ولِتُكَمِّلوا} بالتشديد.

.تفسير الآية رقم (186):

{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} في تلوين الخطابِ وتوجيهِه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من تشريفِه ورفعِ محله {فَإِنّي قَرِيبٌ} أي فقل لهم إني قريبٌ وهو تمثيلٌ لكمال علمِه بأفعال العبادِ وأقوالِهم واطلاعِه على أحوالهم بحال من قُرب مكانُه، رُوي أن أعرابياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أقريبٌ ربُّنا فنتاجيَه أم بعيدٌ فنناديَه؟ فنزلت {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} تقريرٌ للقُرب وتحقيقٌ له ووعدٌ للداعي بالإجابة {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى} إذا دعوتُهم للإيمان والطاعةِ كما أجيبهم إذا دعَوْني لمُهمّاتهم {وَلْيُؤْمِنُواْ بِى} أمرٌ بالثبات على ما هم عليه {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} راجين إصابةَ الرُشْد أي الحقِّ وقرئ بفتح الشين وكسرِها، ولمّا أمرهم الله تعالى بصوم الشهرِ ومراعاةِ العِدةِ وحثَّهم على القيام بوظائفِ التكبير والشكرِ عقّبه بهذه الآيةِ الكريمةِ الدالةِ على أنه تعالى خبيرٌ بأحوالهم سميعٌ لأقوالهم مجيبٌ لدعائهم مجازيهم على أعمالهم تأكيداً له وحثاً عليه ثم شرَع في بيان أحكام الصيام فقال:

.تفسير الآية رقم (187):

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ} رُوي: «أن المسلمين كانوا إذا أمسَوْا حلَّ لهم الأكلُ والشربُ والجِماعُ إلى أن يُصلّوا العشاءَ الأخيرة أو يرقُدوا، ثم أن عمرَ رضي الله عنه باشر بعد العِشاء فندِم، وأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم واعتذر إليه فقام رجالٌ فاعترفوا بما صنعوا بعد العِشاء فنزلت» وليلةُ الصيام الليلةُ التي يصبِحُ منها صائماً والرفثُ كنايةٌ عن الجماع لأنه لا يكاد يخلو من رفث، وهو الإفصاحُ بما يجب أن يكنَّى عنه، وعُدِّي بإلى لتضمُّنه معنى الإفضاءِ والإنهاء، وإيثارُه هاهنا لاستقباح ما ارتكبوه ولذلك سمِّي خيانةً وقرئ {الرُفوث}، وتقديمُ الظرف على القائم مقامَ الفاعل لما مرَّ مراراً من التشويق فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخِّر تبقى النفسُ مترقبةً إليه فيتمكن وقتَ ورودِه فضلَ تمكن {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} استئنافٌ مبينٌ لسبب الإحلالِ وهو صعوبةُ الصبر عنهنّ مع شِدة المخالطة وكَثرةِ الملابَسة بهن، وجُعل كلٌّ من الرجل والمرأة لِباساً للآخرَ لاعتناقهما واشتمال كلَ منهما على الآخر بالليل قال:
إذا ما الضجيعُ ثَنَى عِطفَها ** تثنَّتْ فكانت عليه لِباساً

أو لأن كلاً منهما يستُر حالَ صاحبِه ويمنعُه من الفجور {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} استئنافٌ آخرُ مبين لما ذُكر من السبب، والاختيانُ أبلغُ من الخيانة كالاكتساب من الكسْب، ومعنى تختانون تظلِمونها بتعريضها للعقاب وتنقيصِ حظَّها من الثواب {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} عطفٌ على علِم أي تابَ عليكم لما تُبتم مما اقترفتموه {وَعَفَا عَنكُمْ} أي محا أثرَه عنك {فالن} لما نُسخ التحريمُ {باشروهن} المباشرةُ إلزاقُ البَشَرة بالبَشَرة كُنِّي بها عن الجماع الذي يستلزِمُها وفيه دليلٌ على جواز نسخِ الكتاب للسنة {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} أي واطلُبوا ما قدّره الله لكم وقرَّره في اللوحِ من الوَلدِ وفيه أن المباشِرَ ينبغي أنْ يكونَ غرضُه الولدَ فإنه الحكمةُ في خلق الشهوةِ وتشريعِ النكاحِ لا قضاءِ الشهوة، وقيل: فيه نهيٌ عن العَزْل وقيل: عن غير المأتيّ، والتقديرُ وابتغوا المحلَ الذي كُتب لكم {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الابيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر} شبَّه أولَ ما يبدو من الفجر المعترِض في الأفق وما يمتدّ معه من غَلَس الليل بخيطين أبيضَ وأسودَ، واكتُفي ببيان الخيط الأبيض بقوله تعالى: {مِنَ الفجر} عن بيان الخيطِ الأسودِ لدلالته عليه وبذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل ويجوز أن يكون {من} للتبعيض فإن ما يبدو بعضُ الفجر وما رُوي من أنها نزلت ولم ينزلْ من الفجر فعمَد رجالٌ إلى خيطين أبيضَ وأسودَ وطفِقوا يأكلون ويشربون حتى يتبيَّنا لهم، فنزلت فلعل ذلك كان قبل دخولِ رمضانَ وتأخيرُ البيان إلى وقت الحاجة جائزاً، واكتُفي أولاً باشتهارهما في ذلك ثم صُرِّح بالبيان لما التَبَس على بعضهم، وفي تجويز المباشرةِ إلى الصبح دلالةٌ على جواز تأخيرِ الغُسل إليه وصحةِ صومِ من أصبح جُنباً {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل} بيانٌ لآخِرِ وقتِه {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} أي معتكِفون فيها والمرادُ بالمباشرة الجِماعُ.
وعن قتادةَ: «كان الرجلُ يعتكِفُ فيخرُجُ إلى امرأته فيباشرُها ثم يرجِع فنُهوا عن ذلك» وفيه دليلٌ على أن الاعتكافَ يكون في المسجد غيرَ مختص ببعضٍ دون بعضٍ وأن الوطءَ فيه حرامٌ ومفسدٌ له لأن النهيَ في العبادات يوجبُ الفساد {تِلْكَ حُدُودُ الله} أي الأحكامُ المذكورةُ حدودٌ وضعها الله تعالى لعباده {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} فضلاً عن تجاوُزها، نهْيٌ أن يُقرَبَ الحدُّ الحاجزُ بين الحقِّ والباطل مبالغةً في النهي عن تخطِّيها كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن لكل ملكٍ حِمىً وحِمى الله محارمُه فمن رتَعَ حولَ الحِمى يُوشك أن يقَعَ فيه» ويجوز أن يراد بحدود الله تعالى محارمُه ومناهيه {كذلك} أي مثلَ ذلك التبين البليغ {يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ} الدالةَ على الأحكام التي شرعها {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} مخالفةَ أوامرِه ونواهيه.

.تفسير الآية رقم (188):

{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
{وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} نهيٌ عن أكل بعضِهم أموالَ بعضٍ على خلاف حُكم الله تعالى بعد النهيِ عن أكل أموالِ أنفسِهم في نهار رمضانَ أي لا يأكل بعضكم أموال بعض بالوجه الذي لم يُبِحْه الله تعالى و(بيْن) نصبٌ على الظرفية أو الحالية من أموالكم {وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} عطفٌ على المنهيِّ عنه أو نُصِبَ بإضمار أن، والإدلاءُ الإلقاءُ أي ولا تُلقوا حكومتَها إلى الحكام {لِتَأْكُلُواْ} بالتحاكم إليهم {فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم} بما يوجبُ إثماً كشهادة الزورِ واليمينِ الفاجرةِ أو ملتبسين بالإثم {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} أنكم مُبْطلون فإن ارتكابَ المعاصي مع العلم بها أقبحُ. رُوي أن عبدانَ الحضْرمي ادَّعى على امرىءِ القيسِ الكنديِّ قطعةَ أرضٍ ولم يكن له بينةٌ فحَكَم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحلِفَ امرُؤُ القيسِ فهمّ به فقرأ عليه الصلاة والسلام: {إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا} الآية، فارتدَعَ عن اليمين فسلّم الأرضَ إلى عبدان فنزلت. ورُوي أنه اختصم إليه خصمان فقال عليه السلام: «إنما أنا بشرٌ مثلُكم وأنتم تختصِمون إلي، ولعل بعضَكم ألحنُ بحجَّته من بعضٍ فأقضِيَ له على نحو ما أسمَع منه، فمن قضَيْتُ له بشيءٍ من حقِّ أخيه فإنما أقضي له قطعة من نار» فبَكَيا فقال كلُّ واحدٍ منهما: حقي لصاحبي فقال: «اذهبا فتآخَيا ثم ليُحِلَّ كلُّ واحدٍ منكما صاحبَه».

.تفسير الآيات (189- 190):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة} سألهُ معاذُ بنُ جبلٍ وثعلبةُ بنُ غنم فقالا: ما بالُ الهلالِ يبدو رقيقاً كالخيط ثم يزيد حتى يستويَ ثم لا يزال ينقُص حتى يعودَ كما بدأ؟ {قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} كانوا قد سألوه عليه الصلاة والسلام عن الحِكمة في اختلاف حالِ القمرِ وتبدُّل أمرِه فأمره الله العزيزُ الحكيمُ أن يُجيبهم بأن الحِكمةَ الظاهرةَ في ذلك أن تكون معالِمَ للناس في عبادتهم لاسيما الحجُّ فإن الوقتَ مراعىً فيه أداءً وقضاءً وكذا في معاملاتهم على حسب ما يتّفقون عليه، والمواقيتُ جمع ميقاتٍ من الوقت، والفرقُ بينه وبين المدة والزمان أن المدةَ المطلقةَ امتدادُ حركةِ الفلك من مبدَئها إلى منتهاها والزمانُ مدةٌ مقسومةٌ إلى الماضي والحالِ والمستقبل، والوقتُ الزمان المفروضُ لأمرٍ {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} كانت الأنصارُ إذا أحْرَموا لم يدخُلوا داراً، ولا فُسطاطاً من بابه، وإنما يدخُلون ويخرُجون من نَقْبٍ، أو فُرجةٍ وراءَها، ويعدّون ذلك بِرَّاً. فبين لهم أنه ليس ببر فقيل: {ولكن البر مَنِ اتقى} أي بِرَّ من اتقى المحارمَ والشهواتِ، ووجهُ اتصالِه بما قبله أنهم سألوا عن الأمرين أو أنه لما ذكر أنها مواقيتُ للحج ذكر عَقيبه ما هو من أفعالهم في الحجِّ استطراداً أو أنهم لمّا سألوا عما لا يَعنيهم ولا يتعلَّق بعِلمِ النبوة فإنه عليه الصلاة والسلام مبعوثٌ لبيان الشرائعِ لا لبيان حقائِقِ الأشياءِ وتركوا السؤال عما يَعنيهم ويختصُّ بعلم الرسالةِ عقّبَ بذكره جوابَ ما سألوا عنه تنبيهاً على أن اللائقَ بهم أن يسألوا عن أمثال ذلك ويهتموا بالعلم بها أو أريد به التنبيهُ على تعكيسهم في السؤال وكونِه من قبيل دخولِ البيتِ من ورائه، والمعنى وليس البرُّ بأن تعكسوا في مسائِلكم ولكنّ البرَّ من اتقى ذلك ولم يجترِىءْ على مثله، {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} إذ ليس في العُدول بِرٌّ أو باشروا الأمورَ من وجوهها {واتقوا الله} في تغيير أحكامِه أو في جميع أموركم. أمرَ بذلك صريحاً بعد بيان أن البِرَّ برٌّ من اتقى إظهاراً لزيادة الاعتناءِ بشأن التقوى وتمهيداً لقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لكي تظفَروا بالبرِّ والهدى.
{وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} أي جاهِدوا لإعزاز دينِه وإعلاءِ كلمتِه، وتقديمُ الظرفِ على المفعول الصريحِ لإبراز كمالِ العنايةِ بشأن المقدّم {الذين يقاتلونكم} قيل: كان ذلك قبل ما أُمِروا بقتال المشركين كافةَ المقاتلين منهم والمحاجزين وقيل: معناه الذين يناصبونكم القتالَ ويُتوقعُ منهم ذلك دون غيرهم من المشايخ والصبيان والرُهبان والنساء أو الكفَرَةُ جميعاً، فإن الكلَّ بصدد قتالِ المسلمين ويؤيد الأولَ ما رُوي أن المشركين صدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامَ الحُديبية وصالحوه على أن يرجِع من قابل فيُخَلّوا له مكةَ شرفها الله تعالى ثلاثةَ أيامٍ فرجَع لعمُرة القضاء فخاف المسلمون أن لا يفوا لهم وأن يقاتلوهم في الحَرم والشهرِ الحرام وكرِهوا ذلك فنزلت ويعضُده إيرادُه في أثناء بيان أحكامِ الحج {وَلاَ تَعْتَدُواْ} بابتداء القتالِ أو بقتال المعاهَد والمفاجأة به من غير دعوةٍ أو بالمُثلة وقتلِ من نُهيتم عن قتلِه من النساء والصِّبيان ومن يجري مَجراهم {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي لا يريد بهم الخير وهو تعليل للنهي.

.تفسير الآيات (191- 194):

{وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
{واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} أي حيث وجدتمُوهم من حِلَ أو حَرَم وأصلُ الثقَفِ الحذَقُ في إدراك الشيء علماً أو عملاً وفيه معنى الغلبة ولذلك استعمل فيها قال:
فإما تَثْقَفوني فاقتُلوني ** فمَنْ أثقَفْ فليس إلى خلود

{وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} أي من مكةَ وقد فُعل بهم ذلك يوم الفتح بمن لم يُسلم من كفارها {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} أي المحنة التي يُفتتن بها الإنسانُ كالإخراج من الوطن أصعبُ من القتل لدوام تعبها وبقاءِ ألم النفس بها، وقيل: شركُهم في الحرم وصدُّهم لكم عنه أشدُّ من قتلكم إياهم فيه {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام} أي لا تفاتحوهم بالقتل هناك ولا تهتِكوا حرمةَ المسجد الحرام {حتى يقاتلوكم فِيهِ فَإِن قاتلوكم} ثمَةَ {فاقتلوهم} فيه ولا تُبالوا بقتالهم ثمةَ لأنهم الذين هتَكوا حُرمتَه فاستحقُّوا أشدَّ العذاب وفي العُدول عن صِيغة المفاعَلة التي بها وردَ النهيُ والشرطُ عِدَةً بالنصر والغلبة وقرئ {ولا تقتُلوهم حتى يقتُلوكم فإن قاتلوكم فاقتلوهم} والمعنى حتى يقتُلوا بعضَكم كقولهم: قتلتْنا بنو أسدٍ {كذلك جَزَاء الكافرين} يُفعلُ بهم مثلُ ما فعلوا بغيرهم {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن القتال والكفر بعد ما رأَوا قتالَكم {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} يغفرُ لهم ما قد سلف {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي شِرْكٌ {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} خالصاً ليس للشيطان فيه نصيب {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} بعد مقاتَلتِكم عن الشِّرك {فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين} أي فلا تعتَدوا عليهم إذ لا يحسُن الظلمُ إلا لمن ظَلَم، فوضعُ العلة موضعَ الحُكم وتسميةُ الجزاءِ بالعُدوان للمشاكلة كما في قوله عز وجل: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} أو إنكم إنْ تعرَّضتم للمنتهين صِرْتم ظالمين وتنعكس الحالُ عليكم، والفاءُ الأولى للتعقيب والثانيةُ للجزاء.
{الشهر الحرام بالشهر الحرام} قاتلَهم المشركون عامَ الحُديبية في ذي القَعدة فقيل لهم عند خروجِهم لعُمرة القضاء في ذي القَعدة أيضاً وكراهتِهم القتالَ فيه: هذا الشهرُ الحرامُ بذلك الشهر الحرامِ وهتكُه بهتكه فلا تبالوا به {والحرمات قِصَاصٌ} أي كلُّ حرمةٍ وهي ما يجب المحافظةُ عليه يجري فيها القصاصُ فلما هتكوا حُرمة شهرِكم بالصَّد فافعلوا بهم مثلَه وادخُلوا عليهم عُنوةً فاقتُلوهم إن قاتلوكم كما قال الله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} وهي فذلَكةٌ مقرِّرة لما قبلها {واتقوا الله} في شأن الانتصار واحذروا أن تعتدوا إلى ما لم يُرَخَّصْ لكم {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} فيحرُسُهم ويُصلح شؤونهم بالنصر والتمكين.